
جلسنا فى ذلك المقهى الأنيق أنا وهى، حكيت لها عن كل شىء تقريباً، جاءت سيرته كثيراً مصحوب بمرارة تشبه مرارة القهوة التى أتينا هنا من أجلها، استمعت هى بإنصات، إتسعت عيناها دهشة فى بعض الأحيان، ضحكت مما حدث ويحدث وشرعنا فى طلب القهوة.
أجلس أنا وهى فى المقهى، فتاتان متأنقتان إلى حد كبير ولا يعرف أياً من الرواد أننا نراقبهم بإصرار، فذلك الذى يجلس ورائى تراه هى بوضوح وتنقل ما يحدث بينه وبين رفيقته ببراعة معلق رياضى مخضرم، وذاك يريد أن يمسك بيد رفيقته، والآخر متوتر يهز رجليه بعنف مما يدل على نوايا سيئة بعض الشىء تجاه من تجلس معه.
أستمع إلى تعليقاتها الساخرة وأنتظر فتى المقهى كى يحضر القهوة، لاشىء كالقهوة الآن يمكن أن يتماشى مع ما أشعر به، تلك المرارة يجب أن تضاف لها مرارة القهوة كى لا تشعر بالوحدة، أيضاً سأشرب القهوة لأنه لا يحبها، هو يفضل الشاى وأنا أفضل القهوة، لم أفطن إلى أننا مختلفين إلا عندما عرفت أننى أفضل أن أحيا بينما هو أقصى سعادته ستتحقق حين يرى آخر أوردتى تسقط آخر قطرات دم بها بفضل سكينه اللعين.
تنتقل من مرحلة الوصف إلى مرحلة التوقع، أراقب معها الرواد وأنتظر ما توقعت أن يحدث وأحسب لها النقاط التى تحصل عليها "الفورة من كام ترابيزة طيب؟؟" يحدث ما تتوقعه حرفياً وتتعالى ضحكاتنا.."هيقرب إيده منها دلوقتى وهى هترجع لورا..أصل البت دى شكلها محترمة" وعندما ترجع البنت للخلف فعلاً أعلق أنا أنها بارعة حقاً ولكن يجب أن تترك البشر وحالهم كى لا يفطن أحد إلى تسليتنا ويراقبونا وبدورهم.
تترك متابعة الرواد وتنظر لى وتتنهد، تطفو تلك النظرة التى تقول بوضوح تام أنها تعرف ما أعانيه، تقول أنها متفهمة، تقول أنها لا تعرف ماذا يجب أن تفعل كى توقف نزيف الذكريات الذى يتدفق من عقلى ويغرق كل شىء فى عالمى، تقول كل هذا ثم تتبعه بطلب آخر للقهوة التى لا تجىء أبداً، نبحث أنا وهى عن ذلك الفتى المشغول جداً والذى يهرب من رفع أكواب الشوكولا من أمامنا كى يأتى بالقهوة الحبيبة.
تقول لى أنها تعرف أننى أفضلها سكر زيادة، أخبرها أنا أننى اليوم سأشربها سادة "على روح المرحوم؟؟" تقولها وتضحك وتربت على يدي، أنطلق فى جولة أخرى من بعثرة ذكرياتى فى أرجاء المقهى، أحكى كثيراً جداً، تتناثر ذكرياتى تحت المناضد، تطيرها المراوح المنتشرة كى تدهسها أرجل رواد المقهى، تخبرنى هى أن ذكرياتى غالية، حتى إذا لم يقدر هو أنها أغلى شىء حصل عليه فهذا لا يغير من الحقيقة شىء، تتركنى أبعثر ذكرياتى بحرية وتقوم هى بلملمتها من على الأرض، سوف تحتفظ بها فى قلبها كى لا تضيع، تقول أن ذكرياتى لا يجب أن تضيع "مش لازم تنسى بالعكس..أى حاجة بتحصل هى جزء منك..بتزودك..دى مش حاجة وحشة" .
تفرغ من لملمة ذكرياتى وتعود تبحث معى عن فتى المقهى الذى اختفى فى ظروف غامضة، تخبرنى أن اليوم لطيف، أخبرها أنى أحب الخروج برفقتها، تخبرنى أنها فترة من الزمن سوف تثقل من قلبى ولكنها تصقل روحى معها، سوف تجعلنى أنقى وأنبل، تخبرنى أنه "عسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم" ابتسم وأخبرها أن منتهى أحلامى من الدنيا يقف عند كوب قهوة سكر زيادة "فى كوباية مش فنجان" تخبرنى أنها فخورة بي لأننى لن أشربها سادة، هكذا لن يستطيع أن يهزمنى.
يظهر فتى المقهى أخيراً، يعتذر كثيراً جداً عن التأخير، يرفع أكواب الشوكولا ويسألنا عما إذا كنا نطلب شيئأً آخر، نخبره بصوت واحد عن رغبتنا فى القهوة، يبتسم فى إحراج ويخبرنا أن
"والله مفيش قهوة تركى..ينفع إسبرسو؟"
((تمت))
...............انجى ابراهيم...........